الخلافات بين المفكرين
الخلافات بين المفكرين لم تكن دوما حول الفكرة وحدها، بل كثيرا ما اتسعت لتشمل الإيمان بالذات، والقلق على المشروع، وشعور كل طرف أنه حامل للحقيقة الأخلاقية أو الفلسفية..!! بحسب دراسات في علم النفس الاجتماعي، فإن الخلاف الفكري الحاد لا يقود تلقائيا إلى القطيعة، لكن حين يمتزج بالرؤية الذاتية والاعتقاد بالتفوق الأخلاقي، فإنه يصبح صداما يصعب احتوائه..
يقول علماء الطب النفسي إن الشخصيات المفكرة قد تعاني أحيانا من حساسية مفرطة تجاه النقد، ما يجعل الخلاف يتحول إلى قطيعة!
وفي النهاية، المفكرون بشر مهما بلغ نضجهم العقلي، يختلفون ويتألمون وينجرون أحيانا إلى انفعالات من نوع الحياة اليومية.. يتجادلون كفلاسفة ثم يبتعدون كأصدقاء مكسورين.. وما يبدو في الكتب سجالا فكريا، قد يكون في الواقع جرحا إنسانيا لا يندمل!!
في تاريخ الفكر البشري لم تكن الخلافات بين العقول العظيمة مجرد تباينات في الرأي بل كثيرا ما كانت صدامات جوهرية وقطيعة أبدية لا ترممها السنون لأن الفكر حين يعاش بصدق يتحول إلى حياة كاملة لا تقبل أنصاف المصالحات ولأن المفكر الحقيقي حين يختلف يختلف بجذره لا بغصنه..
هذه ليست مجرد نقاشات بين أصدقاء بل معارك وجودية بين قناعات متنافرة لفهم الإنسان والعالم والمعنى.. ساطرح عليكم هنا سبعة 7 امثلة من أبرز الخلافات الفكرية التي لم تكن نهاياتها سوى تأريخ للخذلان أو الكبرياء أو الانتصار لفكرة على حساب شخص..
1. نيتشه وفاغنر الموسيقى حين تصطدم بالفلسفة
كان نيتشه مفتونا بريتشارد فاغنر الموسيقي الذي رأى فيه التجسيد الأعلى للروح الجرمانية كتب عنه بإعجاب بالغ في ميلاد التراجيديا قبل أن يتحول هذا الإعجاب إلى خيبة جارحة، رأى نيتشه أن فاغنر انحرف عن المثال الأعلى واستسلم للذوق الشعبي والدين والبرجوازية.. كتب نيتشه لاحقا لقد كرهت فاغنر كما يكره العاشق امرأة خدعته!!
القطيعة بينهما لم تكن فنية فقط بل فلسفية حول الفن والهوية وحرية الروح التقى نيتشه بفاغنر مرتين بعد الخلاف لكن كل شيء كان قد انتهى، مات فاغنر وكتب نيتشه مرثية حزينة لكنها لم تمح أثر الخيانة التي شعر بها.. ظل نيتشه يذكر فانغر حتى في أيامه الأخيرة.
2. ابن رشد والغزالي عقل يواجه القلب
في القرن الخامس الهجري دوى الغزالي بكتابه "تهافت الفلاسفة" مهاجما بشراسة فكر ابن سينا وأرسطو ومن تبعهم.. رأى أن العقل تجاوز حدوده وأن الفلسفة تفسد العقيدة، بعده بقرن جاء ابن رشد ليكتب :تهافت التهافت" دافعا بالعقل إلى الصدارة معتبرا أن الدين والعقل لا يتعارضان بل يتكاملان
الخلاف بينهما لم يكن شخصيا بل بين مدرستين الغزالي يمثل التصوف والحذر من العقلانية، وابن رشد يمثل الإيمان بقدرة العقل على فهم الشريعة والطبيعة ورغم أن الزمن حكم لصالح الغزالي في الثقافة العامة فإن ابن رشد عاد منتصرا في أوروبا التي ترجمته واعتبرته رائد العقلانية الحديثة.
3. ستالين وستاروسكي السياسة حين تبتلع الرفاق
كان نيكولاي ستاروسكي من أوائل أنصار ستالين ورفيقا في درب الثورة البلشفية لكن حين بدأ ستاروسكي يعبر عن خيبته من تحول الثورة إلى استبداد تحول من رفيق إلى خائن أمر ستالين بتص/فيته في واحدة من حملات التطهير ولم يعرف قبره أبدا!
الخلاف هنا لم يكن على مبدأ بل على السلطة السياسة تكره الذين يعرفون وجهها الآخر والقطيعة جاءت لا على الورق بل على هيئة رص/اصة!
4. طه حسين ومصطفى صادق الرافعي الأدب بين التقليد والتجديد
في مصر الحديثة تقابل طه حسين صاحب الرؤية التحديثية الجريئة بمصطفى صادق الرافعي أحد أشد المدافعين عن اللغة والتراث كانت معركة على النص وعلى الهوية الثقافية رأى حسين أن في الأدب الجاهلي ما يشك فيه فرد عليه الرافعي ساخرا في تحت راية القرآن معتبرا أن حسين أعجمي النفس واللسان وانه اعمى ألبصر والبصيرة..
لم يصافح أحدهما الآخر يوما وكانت المعركة حامية في الصحف لكنها انطفأت بمرور الزمن تاركة خلفها أسئلة لا تزال مطروحة هل الأدب ترميم للماضي أم قفز عليه..
5. إدوارد سعيد وبرنارد لويس من يملك الشرق
في أروقة الجامعات الغربية دار صراع خفي لكنه عميق بين إدوارد سعيد المدافع عن الشرق وصورته وبرنارد لويس أحد أبرز المستشرقين الغربيين في الاستشراق اتهم سعيد لويس بأنه يقدم شرقا متخيلا يخدم السياسة الاستع/مارية ويفرض على العالم العربي صورة ثابتة متخلفة..!
رد لويس بمقالات طويلة وكتب سعيد يهاجم البحث العلمي باسم الأيديولوجيا لم يجتمعا وجها لوجه لكن كتبهما ظلت تتبارز لعقود في واحدة من أهم معارك الفكر الثقافي الحديث!
6. روسو وفولتير التنوير حين يجرح بعضه
روسو الفيلسوف الحالم كتب كمن يعترف وفولتير المفكر الساخر كتب كمن يهاجم تعاركا حول كل شيء الحرية الدين المجتمع المسرح بل حتى الطبع البشري كتب فولتير ساخرا من العقد الاجتماعي وتهكم من إيمان روسو بالطبيعة عندما ماتت إبنة روسو كتب فولتير من الجيد أنها ماتت حتى لا تصبح تعسة مثل والدها! كما اتهمه بالرجعية! ورد روسو برسائل مرة فقط ثم انسحب من الحياة العامة وهو يقول الناس يكرهونني لأنني أحببتهم أكثر مما أحببت نفسي..
لم يتصافحا ولم ينس أحدهما الآخر لكن الزمن حفظ لهما ما يستحق أحدهما مفجر الحداثة والآخر ضميرها القلق.
7. سارتر وكامو حين يخون الضوء ظله
جان بول سارتر وألبير كامو اسمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر التقيا على رصيف باريس بعد الحرب العالمية الثانية وكانا معا ضد الفاشية ومع الإنسان كتب كامو أسطورة سيزيف فامتدحه سارتر وكتب سارتر الوجود والعدم فقرأه كامو بإعجاب
لكن عندما نشر كامو "الإنسان المتمرد" رفض فيه منطق العنف الثوري وهاجم الشموليات كان هذا طعنا في صميم مشروع سارتر اليساري الذي رأى في الثورة ضرورة تاريخية.. كتب أحد أنصار سارتر نقدا لاذعا وحين طالب كامو بحق الرد في مجلته الأزمنة الحديثة رفضه سارتر وكتب له ما تكتبه لا يستحق الرد لأنه صادر عن خيانة فكرية..
كامو في كبرياء نادر لم يرد اكتفى بالصمت والانسحاب قال لاحقا لصديق أحببته كما يحب المرء ظله مات كامو في حادث سيارة عام 1960م وقيل إن سارتر بكى رغم أنه لم يعترف بذلك أبدا..!
في عام 1964م أعلنت الأكاديمية السويدية فوز سارتر بجائزة نوبل في الأدب لكنه رفضها قال لا يمكنني أن أقبل تكريما من مؤسسة بينما أكتب ضد المؤسسة لكن البعض قال إنه رفضها لأن من نالها قبله هم كتاب لا يحترمهم مثل ونستون تشرشل وقيل أيضا إنه خاف أن يتحول اسمه إلى نوبيلي بينما أراد أن يبقى مجرد سارتر الكائن الحر حتى من المجد بينما أكد الكثير أنه حزن جدا كون البرت كامو نال الجائزة قبله .. يعد كامو حتى يومنا هذا أصغر ثاني شخص نال جائزة نوبل للآداب عن عمر 44 عاما في عام 1957م.
ختاما من يختلف بحق لا يعود الاختلافات بين المفكرين العظام ليست طارئة بل ناتجة عن صدق حارق من يكتب ليحيا لا يساوم حين يخالف ومن يرى الفكرة كنبض قلب لا يتحمل خيانتها حتى في اسم صديق القطيعة بين العظماء ليست دائما فشلا بل أحيانا وفاء لفكرة أعمق من الصداقة وأقسى من الحب..
في المرة القادمة سنلقي نظرة عن قرب على: ألبرت كامو وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ، فريدريك نيتشه وريتشارد فانغر وسالومي. كيف ينساق الإنسان بقوة لدعم وتأيد من يحب ضد الآخر.. حتى أن كان مفكرا!
تعليقات