تعريف السلوك الخاص والعام
في خضم الجدالات التي تتكرر بين الفينة والأخرى حول الشخصيات العامة يبرز سؤال فلسفي وأخلاقي متجدد هل يجب أن يتطابق السلوك الشخصي للفرد مع عبقريته أو إنتاجه العام وهل يجوز الفصل بين الأخلاق الفردية والأثر المعرفي أو الإبداعي هذا التساؤل لم يكن يوما بسيطا أو محسوما بل ظل محل خلاف بين الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع على مر العصور..
تعريف السلوك الخاص والعام:
السلوك الشخصي أو الخاص يشير إلى ما يمارسه الإنسان في حياته اليومية بعيدا عن الرقابة العامة وهو ما يرتبط بقيمه وتجاربه الشخصية بينما السلوك العام يتمثل في أفعاله ومواقفه التي يظهرها في محيط العمل أو أمام المجتمع ويكون محكوما غالبا بمعايير خارجية هذه الثنائية تطرح إشكالية أخلاقية واجتماعية حول ما إذا كان من الإنصاف تقييم الشخص بناء على حياته الخاصة أم منجزه العام فقط
يرى علم النفس الحديث أن الفرد كيان معقد تشكله عوامل بيئية ووراثية وتجارب شخصية متراكمة فضلا عن الاضطرابات النفسية إن وجدت لذلك فإن التناقض في سلوك الفرد لا يعني بالضرورة خللا في قدراته العقلية أو إنتاجه وقد بيّنت أبحاث مثل دراسة جوردان بيترسون 2017 حول الشخصية والإبداع أن المبدعين غالبا ما يظهرون سمات تعرف بالانفتاح على التجربة واللانمطية السلوكية وهي صفات قد تفسر اجتماعيا كغرابة أو تناقض ألبرت أينشتاين الذي أحدث ثورة علمية في فهمنا للكون كان يوصف بفوضويته الشخصية وصعوبة تعامله الاجتماعي لكن ذلك لم ينل من عبقريته أو منجزه العلمي..
أما علم الاجتماع فيعتبر أن ما يعرف بالسلوك المقبول يحدده السياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع والذي قد يصطدم بطبيعة المبدع المتجاوز للحدود والرافض للأنماط فالمجتمعات تخلق نماذج مثالية للسلوك غالبا ما تعجز عن استيعاب التفرد أو التمرد الذي يصاحب العبقرية الباحث زيجمونت باومان في أطروحته عن الحداثة والسوائل الاجتماعية يرى أن المجتمعات تميل إلى تقنين الفرد بينما يميل المبدع إلى الانفلات من هذه النمذجة الكاتب تشارلز ديكنز الذي يعتبر من أعمدة الرواية الإنجليزية عاش حياة أسرية معقدة وشهدت انفصاله عن زوجته بطريقة أثارت الكثير من الجدل إلا أن أعماله الأدبية شكلت وعي الطبقات الشعبية وفضحت المظالم الاجتماعية أما إرنست همنغواي فكان معروفا بسلوكه الصاخب وحياته المليئة بالتناقضات والمغامرات لكنه في الوقت ذاته قدم للإنسانية أدبا من الطراز الرفيع حاز به جائزة نوبل..
الفلسفة تناولت هذه الإشكالية من زوايا متعددة المدرسة الوجودية مثلا تمثلها أفكار جان بول سارتر ترى أن الفرد حر في صناعة قيمه واختياراته وأن التناقض بين السلوك الخاص والمشروع الإبداعي لا يدل بالضرورة على انفصام بل على التعدد الوجودي للإنسان في المقابل يرى فلاسفة الأخلاق من التيار الكانطي أن المسؤولية الأخلاقية لا تنفصل عن المجال العام وأن المبدع بحكم تأثيره مطالب بمستوى أعلى من النزاهة وهو رأي يتبناه أيضا الفيلسوف المعاصر مايكل ساندل في كتابه العدالة ما الصواب الذي ينبغي فعله.
ميشيل فوكو أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين عرف بأفكاره الثورية عن السلطة والمعرفة والجنس لكنه في حياته الخاصة خالف كثيرا من المعايير الاجتماعية وهو ما أثار جدلا دائما حول ازدواجية حياته وأفكاره ومع ذلك أطروحاته غيرت وجه الدراسات الإنسانية وهو ما يدفعنا للتساؤل هل يمكن أن نفصل الأثر عن الإنسان.
أما هيغل الفيلسوف الألماني الذي أسس للديالكتيك الفلسفي الحديث فقد وصف بالنرجسية وبتقلباته المزاجية بل تشير بعض الروايات إلى أنه أودع أبناءه دارا للأيتام هذا السلوك الذي يعد قاسيا بمقاييسنا الأخلاقية لم يمنعه من كتابة مؤلفات تربوية وفلسفية تعد من الأعمدة الأساسية في الفكر السياسي والتربوي
الموسيقار موزارت صاحب الألحان الخالدة كان معروفا بطيشه وسلوكه غير المنضبط وبذخه الشديد وعاش حياة مليئة بالتقلبات انتهت بموته فقيرا لكن تاريخه الموسيقي بقي علامة فارقة في التاريخ البشري.
في السياق العربي نجد شخصيات بارزة مثل الشاعر نزار قباني الذي خاض حياة مليئة بالتحولات الشخصية لكنه استطاع أن يحدث نقلة في الشعر العربي كذلك المفكر السوري أدونيس الذي يعتبر من أبرز مثقفي العصر الحديث تعرض لانتقادات حادة بسبب آرائه السياسية وبعض مواقفه الفكرية إلا أن نتاجه الأدبي لا يزال يقرأ ويدرس ويمكن أيضا الاستشهاد بالكاتب المصري طه حسين الذي رغم بعض مواقفه الفكرية الجدلية أسس لنهضة أدبية وفكرية لا تزال قائمة إلى اليوم..
السلوك الشخصي المقبول في المجتمعات البشرية:
تختلف المجتمعات في رؤيتها للسلوك المقبول لكنها تلتقي غالبا عند معايير أساسية مثل احترام الآخر والصدق والالتزام بالعقود والابتعاد عن الإيذاء والحفاظ على النظام العام هذه المعايير تقاس بالسياق الزمني والثقافي والديني للمجتمع فالسلوك الذي يعد انحرافا في مجتمع قد يكون مقبولا أو حتى مطلوبا في آخر الباحثة ماري دوغلاس في دراستها عن النجاسة والمقدس ترى أن المجتمعات تحدد السلوك المقبول من خلال الرمزية والتطهير الاجتماعي
كما تنظر بعض التيارات المحافظة والمؤسسات الدينية إلى الازدواجية بين السلوك الخاص والعام للمبدعين باعتبارها خللا أخلاقيا وتطالب بأن يكون الشخص قدوة متكاملة في سلوكه العام والخاص خاصة إذا كان يؤثر في المجتمع وهذا الطرح يمثل تيارا أخلاقيا صارما يربط بين السمعة الشخصية والمشروعية الثقافية
تأثير الثقافة المحلية والمجتمعية:
الثقافة المحلية تؤثر بشكل عميق في رسم حدود المقبول والمرفوض في حياة الأفراد حيث تختلف نظرة المجتمعات تجاه الخصوصية والحرية الفردية ما بين من يراها شأنا شخصيا وآخرين يعتبرون أن كل سلوك خاص يجب أن يخضع لرقابة أخلاقية عامة هذه الفوارق تخلق فجوة في فهم الشخصيات العامة خاصة عند مقارنة الأثر العالمي لهم مع السياقات المحلية التي يعيشون فيها وهو ما يجعل بعض المبدعين محل احتفاء في ثقافة ونقد في أخرى
الحكم على الأفراد استنادا فقط إلى سلوكهم الشخصي هو تبسيط مخل يغفل تعقيد التجربة الإنسانية فالمبدع وإن بدا في بعض جوانب حياته مثيرا للجدل أو غير تقليدي قد يقدم للعالم ما لا يمكن الاستغناء عنه ومثلما لا نحكم على الكتاب من غلافه لا يجوز حصر المبدع في لحظة ضعف أو زلة شخصية
الإبداع في جوهره فعل تحرري يأتي غالبا من أولئك الذين يرفضون الانصياع الكامل لقوالب المجتمع لكنهم يصنعون بصمتهم في أعماق التاريخ الإنساني وفي النهاية لا بد من أن نفهم أن الإنسان كل مركب وأن في جوهر التناقض يكمن الكثير من الجمال
---
**مراجع مختصرة**
- Peterson J. (2017). *12 Rules for Life*
- Kaufman S. B. (2014). *Wired to Create*
- Bauman Z. *Liquid Modernity*
- Sandel M. (2009). *Justice: What’s the Right Thing to Do?*
- Douglas M. *Purity and Danger*
- دراسة جامعة هارفارد 2019 عن الاضطرابات النفسية والإبداع
- سيرة ديكنز وهمنغواي من أرشيف المكتبة البريطانية
- فوكو وهيغل من موسوعة ستانفورد للفلسفة
تعليقات