ثقافه العنف واسبابها
العنف ليس فعلاً عاطفياً فردياً يتراجع كلما تقدمت قدرة الإنسان على السيطرة على عواطفه، وكلما اتسم سلوكه بالعقلانية، بل هو إفراز للبنية الثقافية للمجتمع، فالبنية الثقافية ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة هي التي تحدد منشئه وأشكاله ومغزاه. لذلك فإن إدانة العنف باعتباره مناقضاً لثوابت العقل الإنساني ولطبيعة الإنسان العاقلة ومنافياً للأخلاق البشرية، هو أمرٌ غير علمي وغير واقعي، فالتعامل العلمي والواقعي مع ظاهرة العنف يتطلب إبتداءً تحليل البنية الثقافية للمجتمع، بهدف الكشف عن مصادر العنف فيها، وطبيعة انعكاسه على العلاقات الاجتماعية والسياسية بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في المجتمع، وعلى سلوك الأفراد في حياتهم اليومية وعلاقاتهم الشخصية والأسرية. هذا هو ما نحاوله في هذه الورقة. غير أن مفهوم الثقافة يعد واحداً من أكثر المفهومات السوسيولوجية مدعاة للاختلاف حول دلالاته بين المفكرين والباحثين الاجتماعيين، لذلك فإنني سوف أبدأ هذه الورقة بتقديم تعريف لما أعنيه بمصطلح الثقافة، بهدف خلق فهم مشترك لهذا المصطلح.
أولاً: ما هي الثقافة؟ وما هو العنف؟
تتسم المفهومات المستخدمة في العلوم الاجتماعية بتعدد واختلاف دلالاتها، يمثل ذلك أهم أسباب الاختلافات الفكرية، لذلك نحاول هنا أن نعرف المفهومين الرئيسيين في هذه الورقة وهما مفهوم الثقافة ومفهوم العنف.
مفهوم الثقافة: على الرغم من تعدد مدلولات مصطلح الثقافة(1) فإننا في هذه الورقة سوف نأخذ بالتوجهات الاثنروبولوجية في تعريف الثقافة والتي تنظر إلى الثقافة باعتبارها مركب من الأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير المقبولة اجتماعياً كأطر مرجعية لضبط وتقييم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع، وعلاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر سواء على المستويات الثنائية أو على مستوى التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية.
تشكل الثقافة ضمن النسق الاجتماعي العام نسقاً فرعياً متميزاً ومستقلاً لكنه يتفاعل مع بقية الإنسان الفرعية الأخرى ويتطور معها وبها، وتقوم الثقافة بتكوين جملة الطرائق والمعايير التي تحكم رؤية الإنسان للواقع، لذلك فإن الثقافة هي مجموع القيم والقواعد والأعراف والتقاليد والخطط التي تبدع وتنظم الدلالات العقلية والروحية والحسية، وتعمل على الحفاظ على توازن النسق الاجتماعي واستقراره ووحدته وتوحيد الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي عن طريق توحيد الأنماط العقلية التي تحكمها، فالثقافة تغذي الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي بقيم مماثلة فتخلق نسيجاً اجتماعياً واحداً قادراً على إعادة انتاج نفسه. لذلك فإن الثقافة في الحقيقة ليست إلا المجتمع نفسه وقد أصبح مظهراً للوعي أو وعياً، وهذا الوعي هو في ذات الوقت وعي للذات(2).
تحدد الثقافة معنى الخير والشر، وتخلق شعوراً أخلاقياً أو ضميراً يقوم لدى كل فرد بتنظيم المعايير المقبولة لسلوكه، وتحدد مختلف المفاهيم التي تدخل في نطاق التمييز بين المحرم والمباح ودرجاتهما من مفضل ومستحسن ومطلوب ومكروه وواجب وممنوع ومسموح(3).
مفهوم العنف: يميل عدد من المفكرين الاجتماعيين والانثروبولوجيين إلى حصر العنف في إطار الأفعال الفيزيقية التي تؤدي إلى أضرار مادية في الأشخاص أو الممتلكات، يستوي في ذلك المفكرون الاجتماعيون الذين يعتبرون العنف خاصية من خصائص النوع الإنساني متأصلة في طبيعته البيولوجية والمفكرون الاجتماعيون الذين يعتبرون العنف خاصية ثقافية تشجعه بعض الثقافات وتقاومه أخرى(4). أما مفهوم العنف كما ستستخدمه هذه الورقة فإنه أكثر اتساعاً، ويتطابق مع تعريف ريمون آرون للعنف باعتباره " كل فعل يمثل تدخلاً خطيراً في حرية الآخر وحرمانه من التفكير والرأي والتقرير، وتحويل الآخر إلى وسيلة أو أداة لتحقيق أهدافه دون أن يعامله كعضو حر وكفء(5). لذلك فإن مفهوم العنف الذي نعتمده هنا يشمل العنف المادي والعنف الرمزي، إن المجتمعات المعاصرة لا سيما الأكثر تطوراً لم تعد تعترف بحق الأفراد في ممارسة العنف المادي، فقد حضرت على الأفراد استخدام العنف المادي بكل أشكاله ابتداء بضرب الأبناء وانتهاء بالحرب، فحضرت بعض أشكال العنف المادي حضراً شاملاً، فحضرت حق بعض أشكال العنف المادي حضراً شاملاً، وحصرت حق استخدام بعضها الآخر على الدولة فقط، كالسجن والإعدام…الخ، لذلك فقد أصبحت كل أشكال العنف المادي التي يمارسها الأفراد والجماعات الاجتماعية أفعالاً مُحَرَمة قانونياً، مع ذلك فإن بعض الأفراد في كل المجتمعات لا زالوا يمارسون أفعالاً عنيفة مادياً، غير أن العنف الأكثر انتشاراً في المجتمعات المعاصرة هو العنف الرمزي، فالعنف الرمزي في معظم الحالات يكتسب شرعية اجتماعية، فإذا كان العنف المادي يمثل شكلاً من أشكال التمرد على منظومة القيم الاجتماعية ويصنف ضمن أعمال الجريمة، في مقابل ذلك فإن العنف الرمزي يمثل شكلاً من أشكال الامتثال لمنظومة القيم الاجتماعية والثقافة السائدة، وتنظمه المعايير والأعراف والاتجاهات السلوكية.
ثانياً: الثقافة والعنف:
يمثل سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع تجسيداً لطبيعة التوجهات الثقافية للمجتمع، مع ذلك فإن سلوك الأفراد والجماعات المختلفة ليست دائماً متطابقة، يرجع ذلك إلى أن للطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة في المجتمع ثقافاتها الفرعية التي تميزها بعضها عن البعض الآخر، والتي تقترب أو تبتعد عن الثقافة الأساسية للمجتمع أو الثقافة الوطنية، لذلك فإن التوجهات عن الثقافة العامة للمجتمع تتحدد بناءً على ثلاثة محددات هي: الاتجاهات العامة للثقافة الوطنية، اتجاهات الثقافات الفرعية، وأخيراً طبيعة العلاقة بين الثقافة الوطنية والثقافات الفرعية. إن طبيعة العلاقات بين الثقافة الوطنية والثقافات الفرعية تحدد في ذات الوقت " شروط التغيير الثقافي ومضاعفاته على التوازنات السياسية والاقتصادية للمجتمع والمقاومات التي يمكن أن تظهر هنا وهناك، ومعنى التغير الثقافي وأثره على التراتب الاجتماعي. إن المنظومات الثقافية تخفي إذاً مواقع اجتماعية سياسية وتكرسها في الوقت نفسه بقدر ما هي انعكاس لها، واحتلال الساحة الثقافية من قبل تيار أو آخر يمنحه ميزات في عملية السيطرة، فبقدر ما يجسد النمط الثقافي طريقه في الحياة فإنه يحمل قيماً سياسية"(6).
تأسيساً على ما تقدم فإن البنى والممارسات الثقافية من جانب والبنى والممارسات السياسية من جانبٍ آخر تمثل كل منها سبباً ونتيجة للآخر، في ذات الوقت فإن العنف يمثل خاصية ثقافية، فبعض الثقافات تمثل بيئة ملائمة لانتشار العنف، وبعضها الآخر تستطيع ابتكار آليات لامتصاص العنف في المجتمع.
في الوقت الذي يمثل العنف خاصية ثقافية فإنه في الوقت ذاته يمثل خاصية سياسية، فدرجة انتشاره تتوقف على طبيعة بناء القوة وتوزيع السلطة في المجتمع، أي أن العنف والثقافة والسلطة في أي مجتمع عمليات اجتماعية تتحدد كل واحدة منها وفقاً لطبيعة العمليتين الآخريين. لذلك فإن منهجيتنا لتحليل العنف ترتكز على تحليل البنى الثقافية وطبيعة بناء القوة وتوزيع السلطة في المجتمع، وهو كما نعتقد منهج ملائم وناجح لتحليل العنف بشكل عام والعنف الموجه ضد المرأة بشكل خاص، فهو يتوائم مع الاتجاهات الحديثة في دراسة أوضاع المرأة، المستندة على تحليلات النوع الاجتماعي من خلال البحث عن الأساس التاريخي والثقافي لعلاقات اللامساواة الاجتماعية بين الجنسين، فما هي ملامح الثقافات وبناءات القوة الملائمة لانتشار العنف؟ أو بمعنى أخر ما هي ملامح ثقافة العنف؟ هذا ما نحاول إيضاحه فيما يلي:-
الثقافات التي تميل إلى تركيز السلطة: فيسود العنف في المجتمعات التي تتسم بناها بتركز السلطة سواء على مستوى العائلة أو على مستوى المنظمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، إذ نلاحظ على مستوى الحياة الخاصة والعامة أن البنى التي تحتكر فيها السلطة وحق اتخاذ القرارات من قبل شخص أو مجموعة من الأشخاص هي بنى معرضة دائماً لأشكال مختلفة من العنف، فالعائلات التي لا تسمح لأفرادها بالتعبير بحرية عن مواقفهم واتجاهاتهم وآرائهم وكذلك الحكومات، فإن الأفراد لا يجدون غير الأساليب العنيفة، لذلك فإن علماء السياسة المعاصرون يعتبرون الإدارة المحلية أحد آليات تخفيف العنف السياسي.
الثقافات التي تسودها أشكال من اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، إن المجتمعات التي تفشل في وضع برامج وسياسات وخطط واستراتيجيات تحقق العدالة الاجتماعية وتقضي على أشكال اللامساواة المختلفة، تكون أكثر عرضة لانتشار العنف من المجتمعات التي تحقق درجة عالية من العدالة الاجتماعية.
الثقافات التي يعتمد فيها التقييم الاجتماعي على أسس سلالية أو وراثية: تسود هذه التوجهات الثقافية في المجتمعات التقليدية التي تعتمد فيها العلاقات الاجتماعية على الانتماءات التحتية لا على أساس المواطنة. وتتميز هذه المجتمعات بدرجة عالية من العنف، فالقارة الأفريقية هي أكثر القارات عنفاً، يرجع ذلك إلى درجة قوة البناء القبلي فيها مقارنة بغيرها من القارات، وهيمنة البنى القبلية على البنى السياسية والاقتصادية فالحياة السياسية والاقتصادية في معظم دول أفريقيا رغم اتخاذها شكلاً حداثياً أحياناً لا زالت متأثرة بالانتماءات والتقسيمات القبلية، ولم تنظم بعد على أساس مبدأ المواطنة. هذا التفسير يدحض التفسيرات العنصرية التقليدية للعنف، حيث كان علماء النفس الاجتماعي التقليديون يفسرون الخصائص السيكولوجية للأفراد والجماعات تفسيراً عنصرياً، فيرون مثلاً أن الأمريكيين السود أكثر عنفاً من الأمريكيين البيض. إن عنف الأمريكيين السود من وجهة نظرنا لا يرجع إلى لون بشرتهم أو إلى انتماءهم السلالي بل يرجع إلى انتقاص حقوقهم في المواطنة.
الثقافات التي تتسم فيها السلطة بالشخصنة وعدم المأسسة. وهذه السمة تمثل محصلة السمات الثلاث السابقة، فالمجتمعات التي تتركز فيها السلطة بأيدي عدد محدود من الأفراد والتي تسودها أشكال من اللامساواة الاجتماعية، والتي تستند فيها العلاقات الاجتماعية على أسس القرابة والانتماءات العرفية والسلالية والقبلية لا على أساس مبدأ المواطنة، هي مجتمعات تنتشر فيها السلطات الكارزمية وتفتقر إلى السلطات الممأسسة،إن ممارسة أصحاب السلطة في التنظيمات الإدارية والسياسية والاجتماعية في هذه المجتمعات تخضع للأهواء والرغبات والإرادة والمحسوبية والمجاملة…الخ، ولا تخضع للقانون، هذه المجتمعات يمكن وصفها بأنها مجتمعات العنف المتبادل، فأصحاب السلطة فيها يمارسون عنفاً تجاه الأفراد والجماعات الذين تشملهم سلطتهم، وهؤلاء الأخيرين لا يجدون مناصاً من استخدام العنف للحصول على حقوقهم أو لدرء العنف عن أنفسهم.
الثقافات المقاومة للتجديد: فالثقافة بطبيعتها منتج اجتماعي، ولما كان كل مجتمع مكون من طبقات وشرائح وفئات اجتماعية مختلفة فإن الثقافة لا يمكن أن تحقق مصالح كل هذه المجموعات الاجتماعية بدرجات متساوية، لذلك فإن المجتمع يشهد بشكل دائم عملية صراع ثقافي، فالفئات الاجتماعية التي تحقق لها الثقافة القائمة أكبر قدر من المصالح تسعى إلى الحفاظ على الثقافة القائمة، أما الفئات التي لا تحقق الثقافة القائمة مصالحها وأهدافها فإنها تسعى إلى تغييرها أو تجديدها، وفي حالات المقاومة الشديدة للتغيير أو التجديد فإن الصراع الثقافي السلمي قد يتحول إلى صراع عنيف.
الثقافات الأحادية: إن الثقافات التي ترفض التعدد والاختلاف ثقافات مشجعة لانتشار العنف، إن المجتمعات المعاصرة مجتمعات تعددية اجتماعياً، فهي مجتمعات تتكون من مجموعات طبقية وسياسية وأثنية ودينية متنوعة ومختلفة. لذلك فإن هذه المجتمعات يجب أن تكون متعددة ثقافياً، فالتعددية الاجتماعية تتطلب تعددية ثقافية، وتحقق التعددية الثقافية يتجسد من خلال تسامح الثقافة الوطنية معا لثقافات المحلية في التعبير عن نفسها، أما في الحالات التي يتم فيها فرض توجهات الثقافة الوطنية قسراً وعدم السماح بأي قدر من الخصوصية الثقافية للمجموعات الاجتماعية المختلفة، فإن هذه الأخيرة تميل إلى المقاومة بأشكال عنيفة.تمثل كل سمة من السمات السابقة سبباً ونتيجة للسمات الأخرى، فهي كلها مظاهر للثقافة غير الديمقراطية، التي لا تعترف بالاختلاف والتعددية وتكرس أشكالاً من التمايز واللامساواة القائمة على أساس اجتماعي واقتصادي وسياسي وعلى أساس النوع الاجتماعي، لذلك يمكن القول أن الثقافات غير الديمقراطية هي ثقافات عنف.
ثالثاً: المنابع الثقافية للعنف في المجتمع:
إن بحث ودراسة الجوانب الثقافية للعنف في أي مجتمع، لا يعني أن ثقافته ثقافة عنف، فالبنى الثقافية تاريخياً تتضمن مكونات تشجع التسامح والأمن والسلام والسكينة، كما تتضمن مكونات تشجع على العنف بشكليه المادي والرمزي، وتلعب التحولات والظروف الاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع في فترة زمنية على سيادة قيم التسامح والسلام الاجتماعي، وفي فترات أخرى على سيادة قيم العنف.
تحتل قيمة الثأر أهمية خاصة في منظومة القيم الاجتماعية للمجتمع اليمني. مع ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة تنامياً متسارعاً في أعمال العنف المادي في المجالات السياسية والاجتماعية فقد شهدت اليمن خلال العقدين الأخيرين عدداً من الصراعات السياسية العنيفة التي وصل بعضها إلى حد قيام حروب أهلية. فضلاً عن تنامي عدد جرائم القتل والاختطاف والحروب القبلية، يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى انتشار الأسلحة وسهولة الحصول عليها، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن هناك 50 مليون قطعة سلاح خارج سيطرة الدولة ويمتلكها الأفراد في اليمن، بمتوسط 3 قطع لكل مواطن. على الرغم من ذلك فإن توفر أدوات العنف سواء كانت الأسلحة النارية أو غيرها من الأسلحة لا يمثل العامل الوحيد أو حتى الرئيسي في تزايد أعمال العنف في المجتمع اليمني، فقد ساهمت عوامل أخرى في ذلك أهمها: القصور المؤسسي للدولة والذي أثر على قدرتها على تأدية وظائفها، وقصور التجربة الديمقراطية، وعدم تفعيل القانون، وغياب مبدأ المواطنة المتساوية، وتأثير مراكز القوى ، .
على الرغم من أن معدلات العنف المادي قد تزايدت خلال السنوات الأخيرة إلا أنها لا زالت ضمن المعدلات المقبولة والتي لا تصل إلى حد اعتبار المجتمع اليمني واحداً من المجتمعات التي تشهد معدلات عنف مادي عالية، غير أن هناك تبايناً كبيراً بين معدلات العنف المادي ومؤشرات العنف الرمزي، فإذا ما أخذ بعين الاعتبار العنف الرمزي فقط، فإنه يمكن وصف الثقافة اليمنية بأنها ثقافة عنف، فهناك أشكال عديدة من العنف الرمزي التي تمارس ضد الأفراد والجماعات في المجتمع اليمني، أهمها التهميش الاجتماعي الذي تعانيه بعض الشرائح والفئات الاجتماعية في المجتمع اليمني، كالأخدام وأبناء الخمس والنساء فهذه الفئات تعاني من أشكال عديدة من العنف الرمزي التي تصل إلى حد التدخل في الحقوق الشخصية.
تأسيساً على ما تقدم فإن طبيعة التوجهات الثقافية السائدة في المجتمع تمثل أحد أهم العوامل التي تساعد على انتشار العنف بشكليه المادي والرمزي، ونحاول تحديد التوجهات الثقافية التي ساهمت في انتشار العنف في المجتمع اليمني كالتالي:
هيمنة القيم القبلية على البنى الثقافية اليمنية: فالثقافة اليمنية تشكلت تاريخياً من خلال تفاعل عدد من العناصر، أهم هذه العناصر تتمثل في القيم القبلية، والثقافة القبلية كما هو معروف تاريخياً ثقافة عنف، فقد اتسمت المجتمعات القبلية بالصراع الدائم بين القبائل المختلفة، لذلك فقد كرست البنى القبلية مجموعة من القيم المشجعة لاستخدام الأساليب العنيفة في حلا لخلافات، وأهم هذه القيم قيم الرجولة والقوة والشجاعة والثأر…الخ. الأمر الذي ساهم في انتشار حالات العنف المادي في المجتمع، فضلاً عن ذلك فإن البنى القبلية أعاقت تبني الأفراد لقيمة الفردية، فالروح الجماعية والتضامن القبلي يشجع الأفراد على ممارسة الأفعال العنيفة، حيث يشعر الفرد بالقوة من خلال قوة القبيلة، إضافة إلى أن غياب المسئولية الفردية عن أفعال الأفراد ومشاركة أفراد القبيلة للفرد في تحمل مسئولية أفعاله يساهم في دفعه نحو استخدام العنف، وقد ساهمت طبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والقبيلة في تزايد الممارسات العنيفة في المجتمع، حيث تتمتع المجموعات القبلية في المجتمع اليمني بقدرة كبيرة على التأثير على الدولة، لذلك فإن القبيلة وفرت حماية ودعماً لأفرادها الذين يمارسون العنف، إلى جانب مساهمة الثقافة القبلية في تشجيع انتشار العنف المادي في المجتمع فقد ساهمت في انتشار أشكال عديدة من العنف الرمزي أهمها العنف الموجه ضدا لنساء، فالمجتمعات القبلية مجتمعات ذكورية تحتل فيها النساء مكانة اجتماعية متدنية، ويقمن بأدوار اجتماعية هامشية.
التركيب الاجتماعي الجامد: إن المجتمع اليمني بالرغم من التغيرات التي شهدها منذ ستينات هذا القرن لايزال مجتمعاً تقليدياً تسوده أشكال تقليدية للتقسيم الاجتماعي للعمل، لذلك فإن تركيبه الاجتماعي تركيب تقليدي جامد، تنتفي فيه المساواة الاجتماعية، ويقوم على أسس وراثية، فيقسم أفراد المجتمع إلى صفوة قبلية ممثلة بالشيوخ والأعيان ثم أفراد القبيلة الذين يقسمون بدورهم إلى أغنياء وفقراء، وأخيراً هناك الفئات المحتقرة التي تتشكل من الأقليات الأثنية بشكل خاص، وقد ساهمت الثقافة القبلية ومنظومتها القبلية في تعرض هذه الفئات لأشكال متعددة ودائمة من العنف الرمزي، إلى جانب هذه الفئات فإن المرأة في المجتمع اليمني لا سيما في المناطق القبلية تحتل مكانة اجتماعية أدنى من مكانة الرجل، الأمر الذي جعلها معرضة لعنف رمزي يتشابه مع أشكال العنف الرمزي التي تتعرض لها الفئات الاجتماعية المهمشة. إن أشكال العنف التي تتعرض له الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع اليمني، تتوقف على مواقفهم في خارطة توزيع القوة، وعلى مدى اندماجهم في البنى الاجتماعية أو استبعادهم من المشاركة فيها.
العلاقات الاجتماعية والأسرية الأبوية، فبسبب البنى القبلية والتركيب الاجتماعي الجامد، اتسمت العلاقات الاجتماعية والأسرية بطابع بطرياركي، الأمر الذي خلق شخصيات تسلطية سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى التنظيمات الاجتماعية، وأصبح كل فرد يمارس عنفاً ضد الأفراد الذين يقعون تحت سيطرته، لذلك فإن البنى الثقافية وأساليب التنشئة الاجتماعية ساهمت في خلق شخصيات تسلطية جامدة، ولم تخلق شخصيات متسامحة أو خلاقة أو ديمقراطية.
بطئ تغير البنى الثقافية: إن البنى والممارسات الثقافية التي تحدثنا عنها فيما سبق هي بنى وممارسات تقليدية، وعلى الرغم من أن المجتمع اليمني شهد تغيرات مهمة منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن هذه التغيرات لم تكن من القوة بحيث تعمل على تغيير منظومة القيم الاجتماعية، يرجع ذلك إلى التطور المشوه للبنى والممارسات الحديثة، التي تأثرت بأشكال العلاقات والبنى التقليدية أكثر مما أثرت فيها، فالمؤسسات التعليمية لم تستطع تطوير بناها وأشكال إدارتها، فهي مؤسسات غير ديمقراطية، وتقوم العلاقة فيما بين المعلمين والتلاميذ على أساس عنيف، الأمر الذي يساهم في تكوين شخصيات عنيفة لدى التلاميذ، تمارس عنفاً مضاداً تجاه المعلمين، بل وتمارس عنفاً موجهاً ضد المجتمع في حياتها اليومية، كذلك المؤسسات السياسية، فعلى الرغم من اتخاذها شكلاً حديثاً إلا أنها لم تستطع أن تتبنى توجهات ديمقراطية حقيقية، لذلك فإن الحياة السياسية بشكل عام والممارسات الانتخابية بشكل خاص شهدت أعمال عنف كثيرة.
استبعاد المرأة من الحياة العامة.
قصور مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأولية والثانوية، وفشلها في تكوين شخصيات تتبنى قيم المساواة والعدالة والحرية والكرامة والمواطنة وحقوق الإنسان.
رابعاً: ما العمـــــل؟
سبقت الإشارة إلى أن ظاهرة العنف هي ظاهرة ثقافية اجتماعية، لذلك فإن مكافحتها تقوم بالدرجة الأولى على إعداد وتنفيذ سياسات وبرامج واستراتيجيات تهدف إلى تغيير أشكال الوعي الاجتماعي القائمة، واستبدالها بأشكال وعي اجتماعي ومنظومة أيديولوجية قائمة على الحرية والعدالة والمساواة. ويتحقق ذلك من خلال:
تكريس مبدأ المواطنة المتساوية.
تفعيل دور القانون في المجتمع.
تطوير المؤسسات القضائية وضمان استقلالها.
نشر التعليم.
وضع برامج لتخفيف انتشار الأسلحة.
وضع برامج لتطوير الأوضاع الاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمشة.
خامسـاً: المـراجع والهوامش
نقلاً عن كوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، عرض وتلخيص السيد محمد بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سلسلة تراث الإنسانية، مهرجان القراءة للجميع، 1995م، ص42.
المرجع السابق، ص48.
حنة أرندت، " في العنف" ، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992م، ص5.
أنظر، فريق من الاختصاصيين، المجتمع والعنف، ترجمة إلياس زحلاوي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1985م، ص5.
أنظر، حنة أرندت، مرجع سابق، ص75.
اعداد /سفير السلام محمد عبدالكريم الشعيبي
أنظر برهان غليون، اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1990م، ص ص 68، 92، 94.
المرجع السابق، ص95.
أنظر على سبيل المثال، مارسيل غوشيه دبيار كالستر، أصل العنف والدولة، ترجمة علي حرب، دار الحداثة، بيروت، 1985م.
تعليقات